بقلم : أ. صلاح سالم
رابط المقال :
http://www.alkhaleej.ae/articles/show_article.cfm?val=62850 يمثل طرح “الشرق الأوسط الكبير” الموجة الثالثة لتيار الشرق أوسطية المعاصرة في الصياغة الأمريكية والتي أعقبت الصياغة البريطانية لل”الشرق الأدنى” وكلاهما مفهوم استعماري ينطلق من نزعة المركزية الغربية التي تحكمت فيها تصورات الإمبراطوريتين، وهي تصورات ارتبطت بالجغرافيا السياسية للإقليم العربي ودورها في الاستراتيجية العالمية السائدة آنذاك. فالشرق الأدنى كان مجرد طريق بريطانيا إلى الهند درة تاجها، وأهم مستعمراتها قاطبة، بينما كان الشرق الأوسط دوما هو المجال الحيوي للاستراتيجية الأمريكية وأحد محاور حركتها نحو العالمية. ففي الموجة الأولى لتيار الشرق أوسطية كان الطرح بقصد حصار الاتحاد السوفيتي في خمسينات القرن العشرين بحلف الدفاع عن الشرق الأوسط، ثم حلف بغداد حيث ذاعت استراتيجية ملء الفراغ التي تبنتها إدارة الرئيس ايزنهاور في مواجهة احتمالات التمدد الشيوعي في المنطقة العربية أساسا ثم الهلال الإسلامي المحيط بها وربما إفريقيا جنوب الصحراء في بطنها. وفي الموجة الثانية له كانت “الشرق أوسطية” طرحا شاملا وتبشيريا للانتقال بالعالم العربي و”اسرائيل” من عصر الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية بعد نهاية الحرب الباردة والتحالف العربي - الأمريكي ضد العراق بهدف تحرير الكويت وفي قلبه كان الهدف المركزي هو إدماج “اسرائيل” في المنطقة باعتبارها الوكيل الاستراتيجي الأساسي لها في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي وإعادة بناء التحالف الغربي.
وأما في الموجة الثالثة “الراهنة” فيأتي تعبيرا عن الحضور الجديد والمختلف للولايات المتحدة في المنطقة والذي صار ضاغطا عليها وغير قانع بأنماط التأثير السابقة فيها عبر بوابة التوافق الغربي الواسع حولها، أو من خلال التفاهمات مع دولها الكبرى المعتدلة، ونازعا إلى حصارها عبر الأدوات الصغيرة من قضايا فرعية أو خلافية (تورط بعض العرب في أحداث سبتمبر) أو إشكالية (الموقف من الديمقراطية) والتي قادت تدريجيا وتصاعديا إلى مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي تتسم بأمرين يميزانها عن الموجتين الأوليين للطرح:
أولهما هو الاتساع الجغرافي الملحوظ من الوصف “الكبير”، ومن التحديد إذ يضم ليس فقط باكستان وتركيا كما كان في الموجة الأولى، أو تركيا وحدها في الموجة الثانية، بل تركيا وباكستان وأفغانستان وإيران بجانب العرب و”اسرائيل” وهما الركيزتان الدائمتان للشرق الأوسط صغيرا كان أو كبيرا.
وثانيهما العمق الوظيفي المطلوب من الطرح وهو “التغيير الشامل” فعلى عكس الموجتين الأوليين من تيار الشرق أوسطية واللتين استهدفتا أبعادا سياسية واستراتيجية ضد الاتحاد السوفييتي أو تكيفا مع متطلبات الصراع العربي- “الاسرائيلي”، تستهدف الموجة الراهنة إحداث تغييرات ثقافية عميقة على عدة مستويات أهمها النظام التعليمي، والخطاب الديني! فضلا عن المكونات القومية في تركيب الثقافة العربية وإن استبطنت هذه الأهداف لمطالب ليبرالية وإنسانية مثل دور المرأة في الحياة العامة، ودور المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، والمشاركة الديمقراطية وغيرها.
ولعل العمق الذي تتسم به هذه الموجة ينبع من حقيقة مهمة تميزها عن سابقتيها، فبينما مثلت تلك الموجتان استجابة لتحولات دولية بالأساس من قبيل تدشين وممارسة سياسات الحرب الباردة وإعادة بناء التحالف الغربي في الموجة الأولى، ثم تجاوز تلك السياسات نفسها والقضاء على جيوبها وأنماط الصراع التي شكلتها في الموجة الثانية، فإن الأخيرة تأتي كاستجابة لمحصلة نوعين من التحولات: الأول خارجي يتمثل في النزعة الإمبراطورية المتنامية بذريعة 11 سبتمبر والمرتكزة على فجوة القوة الشاملة مع الآخرين لمصلحة الولايات المتحدة منذ التسعينات والتي غذت بدورها الاتجاهات المحافظة واليمينية في العقل السياسي الأمريكي. أما الثاني فهو داخلي يتعلق بالحالة العربية الراهنة التي تشهد نموا في ضعفها منذ حرب تحرير الكويت وحتى احتلال العراق، فلم يكن متصورا أن تطرح قوة دولية أخرى في عالمنا المعاصر مبادرة من تلك النوعية التي تهدف إلى إعادة رسم ملامح الثقافة القومية حتى في جذرها الديني ما لم تكن قد تمكنت من مفاتيح عديدة وكرست لنفسها وجودا غير منازع فيه على ذلك النحو الاستثنائي الذي تجسده الولايات المتحدة منذ احتلالها للعراق. ولعل الأمر الأكثر خطورة في الموجة الراهنة لطرح الشرق الأوسط “الكبير” كونها لا تنطلق كسابقتها “الشرق أوسطية” من ضرورة حل الصراع العربي -”الاسرائيلي” كأساس لإغلاق ملفات الجغرافيا السياسية المفتوحة وصراعاتها الموروثة من القرن العشرين، لتستبدل بها ملفات الجغرافيا الاقتصادية القائمة على أنماط التعاون والتكتل وتدعيم النزعة العالمية المفترض كونها روحا للقرن الحادي والعشرين، وإنما من إمكانية أو “وهم” تحييده بتحويله إلى مشكلة عادية فرعية قد تحل أو لا تحل، لأن الغاية النهائية أصبحت شل قدرة المنطقة على إفراز العنف أو الإرهاب على نحو يهدد الأمن الأمريكي ادعاء، إضافة لمشروع اليمين المحافظ لبسط السيطرة العالمية وتلبية مطالب المجمع الصناعي العسكري، وضمان التفوق “الاسرائيلي” الحاسم على الدول العربية، ونزع عقيدة القومية العربية في الحقيقة.
غير أن هذا الفهم الذي ينطبق على الولايات المتحدة إذ يندرج في إطار التصور الإمبراطوري الواسع، لا ينطبق بالضرورة على أوروبا خاصة المحور الفرنسي/الألماني الذي يبدي تصورات مختلفة عن التصورات الأمريكية لإدارة السياسة الدولية ومستقبل النظام العالمي ولدور الغرب في صياغته على النحو الذي تبدى إبان العدوان على العراق. وبرغم موجة مراجعة أوروبية لحدود اختلافها مع السياسة الأمريكية استمرت منذ سقوط بغداد وترجع في الغالب إلى ضغوط أمريكية وإلى الانقسامات القائمة بين المحور التاريخي للاتحاد الأوروبي وبين أعضائه الجدد ممن يكتفون أو لعلهم يطمحون إلى لعب أدوار صغرى من داخل العباءة الأمريكية، إلا أن العقل الأوروبي الجمعي يظل يبدي تفهما أكبر لمشاكل المنطقة ولطبيعة الحلول المقترحة، وآليات تنفيذها وعلى رأسها القضية الفلسطينية والصراع العربي - “الاسرائيلي” الذي لا تزال أوروبا تعتبر أن حله يمثل مدخلا أساسيا لأية ترتيبات أو تنظيمات إقليمية جديدة. ذلك أنها تفهم طرح الشرق الأوسط الكبير باعتباره عملية انتقال من مرحلة الجغرافيا السياسية بكل صراعاتها إلى الجغرافيا الاقتصادية بكل ركائزها ومعطياتها ما يفرض ضرورة حل الصراع وإشاعة روح السلام والتي تضمن بدورها السير الهادئ لدول المنطقة نحو الديمقراطية والتنمية والاستقرار، بينما تفهمه الولايات المتحدة باعتباره توظيفا لمرحلة أعلى في الجغرافيا السياسية تستطيع من خلالها اغتنام الفرص السانحة دوليا وإقليميا لتحقيق المزيد من السيطرة الأمريكية وفرض الإرادة “الاسرائيلية” على النحو الذي يدفع العالم العربي في النهاية إلى التسليم لهما بمطالبهما في الاستقرار، ولكن من داخل فضاء التنمية التابعة وليس المستقلة، والتهادنية السياسية وليس الديمقراطية.
ولا شك أن هذا التباين في الفهم سوف يبقى قائما بين الطرفين الأوروبي والأمريكي لدوافع ثقافية واستراتيجية أساسية وإن سعت الولايات المتحدة إلى طمسه من ناحية، أو أبدت أوروبا تجاوبا مع هذه المحاولة من ناحية أخرى ما دام الطرف الثاني في المعادلة وهو العالم العربي بالأساس لا يرفض الطرح صراحة ولا يستطيع تفجير استقطاب عالمي حوله، أو حول قضاياه الأخرى المعلقة مع النظام الدولي. ومن ثم يثور السؤال.. إذا كانت هذه هي طبيعة وحدود التحدي الغربي فكيف تكون الاستجابة العربية المثلى؟
نتصور أن ثمة مطلبين أساسيين ومتكاملين لإنجاز مثل هذه الاستجابة:
المطلب الأول: يمثل الاستجابة الدفاعية أو الاستاتيكية للتحدي وتتجلى في الرفض الكامل والمطلق للطرح الأمريكي أيا كانت دوافعه ودواعيه بإرادة جماعية يمكن تجسيدها في مؤتمر القمة العربي المقبل الذي يتوجب على حضوره إعلان هذا الرفض بشكل مبدئي من دون مناقشة مطولة لأبعاده أو متطلباته ثم الانطلاق سريعا إلى جدول الأعمال العربي المستقل، فإذا ما حالت بعض الدول التي ترغب في لعب أدوار صغرى ضد الإجماع العربي -سواء لشعورها بعدم المسؤولية التاريخية عن المصير القومي المشترك أو لطموحها في أدوار وظيفية تفوق أحجامها الطبيعية من داخل العباءة الأمريكية، أو لدواع استثنائية ضاغطة عليها كوضع العراق مثلا تحت الاحتلال الأمريكي- دون صدور هذا الرفض المطلق فعلى الكتلة العربية الأساسية أن تتجاوز هذه الدول وأدوارها وطموحاتها إلى إعلان موقفها دونما انتظار لمثل هذا الإجماع إذا توافرت الأغلبية، فإن استعصى ذلك أيضا يكون على القوى الكبرى في العالم العربي وبخاصة المحور المصري - السوري - السعودي إعلان هذا الموقف الرافض بإطلاق للمشروع الأمريكي أيا كانت أهدافه ومتطلباته لسبب بسيط ومبدئي وهو انه ينال من السيادات الوطنية والقومية التي هي أساس كل قيم ومثل الحداثة السياسية وليس فقط الديمقراطية التي تدعونا إليها الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار يتوجب التأكيد على أن الدور الأمريكي المطلوب عربيا وربما الوحيد الممكن والإيجابي هو العمل على حل الصراع العربي - “الاسرائيلي” وقيام الدولة الفلسطينية ليسير التاريخ سيره الهادئ والطبيعي الذي قطعه قيام “اسرائيل” في هذه المنطقة من العالم قبل أكثر من نصف القرن.
ولتأمين هذا الموقف يتوجب على العالم العربي أو المحور التاريخي الثلاثي ومن ينضم إليه التنسيق مع أوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا وروسيا وكل الدول المستعدة لتفهم الموقف العربي ومساندته عندما تطرح الولايات المتحدة مبادرتها على قمة الدول الثماني في يونيو المقبل واستخدام شتى الوسائل المتاحة لحفز الدور الأوروبي بعيدا عن المشروع الأمريكي لإضعافه وتعريته بالكشف عن الجوانب الإمبراطورية له والمؤثرات اٌلإسرائيلية فيه فيبقى مشروعا إسرائيلي أمريكي ولا يتحول إلى موقف غربي عام يعطي الموقف الأمريكي مزيدا من القوة أو الشرعية أو كليهما معا.
كما يتوجب التنسيق مع القوى الإقليمية الأخرى المتضمنة، ولو كغطاء، في المشروع الأمريكي وهي جميعا قوى إسلامية يأتي على رأسها إيران وتركيا وباكستان ليكون الرفض جماعيا من كل القوى المخاطبة بالمشروع من ناحية، كما يمكن أن يكون منطلقا لعمل جماعي ضد الشروط بالغة التعسف التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع المنطقة منذ سقوط بغداد خاصة مع العرب وإيران من ناحية أخرى إذ يمكن استثمار التحسن في العلاقات السورية - التركية في الأعوام الثلاثة الماضية ووجود حكومة تركية معتدلة ذات توجه خارجي عقلاني ورؤية متوازنة لهويتها لا تتنكر لجذورها الإسلامية، وكذلك التحسن المشهود في العلاقات المصرية - الإيرانية والذي لا بد أن يتجاوز القضايا الفرعية والصغيرة، ناهيك عن التفاهم المصري - التركي الراسخ، في بناء نظام استراتيجي يقوم على تحالف القوى الكبرى في المنطقة القادرة، والراغبة في شغل الفراغ الحادث بها والذي يجعلها رخوة بأكثر مما ينبغي وما يحتمل. فبدلا من قيام “شرق أوسط كبير” حقيقته الأولى والكبيرة هي “اسرائيل” وهدفه إزالة النظام العربي، فلماذا لا يكون هناك تحالف استراتيجي إقليمي عربي بعمق إسلامي هدفه دعم النظام الإقليمي العربي الشامل “القانوني والمؤسسي” في مواجهة تحدياته العاصفة وليس الإحلال محله.
أما
المطلب الثاني فيمثل الاستجابة الحيوية أو الديناميكية له ونراها في ضرورة الاندماج مباشرة ودون إبطاء في مشروع قومي للتغيير وإصلاح المجتمعات العربية فرادى، وإصلاح النظام العربي على السواء وعلى النحو الذي يستجيب لمطالب النهضة العربية المؤجلة ويلبي أشواق المثقفين والمفكرين العرب إلى الديمقراطية والتحرر بمعناهما الواسع، فإذا كان على هؤلاء المثقفين الإسهام إلى جانب النخبة الحاكمة والشعوب العربية في رفض المشروع الأمريكي للتغيير من الخارج وما يمثله من احتمالات للعبث بالقيم والمصالح، واجتراء على المكانة العربية والسيادات القومية والوطنية لدولها وذلك بتقديم التبرير الأخلاقي والمعرفي لهذا الرفض، فإن على الأخيرة ألا تخذل هؤلاء المثقفين.
وإذا كان مشروع التغيير الأمريكي من الخارج قد انطلق مبررا نفسه بالواقع العربي المتردي الذي كشف عنه تقريران للتنمية الإنسانية العربية صدرا في العامين الماضيين فقط فليس منطقيا أن تهمل النخبة العربية الحاكمة كل الأفكار النهضوية والمشروعات الإصلاحية التي قدمها عشرات من المفكرين والمثقفين العرب من دعاة الإصلاح على طول القرنين الماضيين من رفاعة الطهطاوي مرورا بمحمد عبده وزكي نجيب محمود وحتى محمد عابد الجابري وجابر الأنصاري وحسن حنفي، فالمطلوب الآن هو الحوار مع هذه النخبة وتلك الأفكار والمشروعات الإصلاحية وتبني ما هو ممكن من بينها لإعادة رسم ملامح الإسلام الحضاري ذي الوجه المشرق الذي أسس للنهضة الحضارية العربية الوسيطة وللثقافة العربية المتسامحة، والذي ضمن للإسلام نفسه نقاءه وبقاءه، بل امتداده وانتشاره فلا سبيل إلى استعادة مجتمعاتنا العربية ضد محاولات تطويعها بدعاوى الإصلاح والتغيير، وثقافتنا العربية ضد محاولات اختطافها باتهامات العنف والإرهاب إلا ذلك اللقاء المؤجل والتلاقي الضروري بين نخبة الحكم ونخبة الفكر على طريق التحرر والنهوض عبر التطور الدائم والتغيير الشامل ولكن الذاتي والمستقل، الوطني والقومي.