أما المشروعية السياسية في البلدان المتأخرة تاريخياً فهي مشروعية هجينة يختلط فيها التراث بالمعاصرة والمقدس بالدنيوي. فهناك الأنظمة التقليدية التي ما تزال المشروعية السياسية مستندة فيها على الماضي، والمقدس، وعلى الايديولوجيا والمعايير التقليدية أكثر من أي شيء آخر، وهناك الأنظمة التي اقتنصت إيديولوجيات عصرية وجعلتها مصدر مشروعية وجودها في السلطة الاشتراكية أو التنمية أو التحرير أو غيرها.
فالبلدان المتخلفة التي داهمتها الحداثة عبر الصدمة الاستعمارية التي خلخلت كل بناها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الموروثة والتقليدية، دخلت عبر هذه الصدمة في عملية أدلجة لا شعورية لتراثها وتقاليدها بأشكال ونسب متفاوتة. فإيديولوجياتها التحديثية تتخذ طابعاً عقدياً واضحاً وتراثها يكتسي بالتدريج صبغة إيديولوجية(7). وكما يقول هابرماس فإن «الرؤى التقليدية للعالم تفقد قوتها وصلاحيتها كأساطير وكديانات رسمية، وكطقوس تقليدية. وعوضاً عن ذلك فهي تتحول إلى أخلاقيات ومعتقدات ذاتية تضمن الطابع الإلزامي الخاص للتوجيهات المعاصرة بالنسبة إلى القيم («الأخلاق البروتستانتية»). وأخيراً فإنها تتعدل ويعاد تأويلها وتصبح إنشاءات ذات وظيفة مزدوجة: نقدية للتراث وتعيد تنظيم مضامينه، وبذلك تصبح قابلة وجاهزة للاستعمال. وعندئذ تظهر الايديولوجيات بالمعنى المحدود للكلمة فهي تحل محل اشكال الشرعنة التقليدية للسيطرة في نفس الوقت الذي تقدم فيه نفسها وتعلن الانتساب إلى العلم المعاصر وتبرر ذاتها كنقد للايديولوجيا»(
.
وبقدر ما تكون الايديولوجيا ضرورة سلطوية فهي أيضاً ضرورة أساسية في المجال السياسي حتى لكأن الايديولوجيا تكاد ترادف السياسة ويكاد الصراع السياسي يختزل إلى صراع إيديولوجي. ففي كل مجتمع هناك مجال سياسي، هذا المجال السياسي تملؤه إيديولوجيات وأحزاب واختيارات فكرية وسياسية متعددة. وبما أن المجال السياسي هو مجال الصراع حول تملك وإدارة الخيرات والسلط والرموز فإنه مجال انبثاق الرؤى والتصورات والإيديولوجيات المختلفة.
وظائف أخرى للإيديولوجيا في المجال السياسي
تؤدي الايديولوجيا في المجال السياسي وظيفتين أساسيتين نظرية وعملية. إن الايديولوجيا في عمقها اجتماعية وعملية، فهي ليست نظرية في المعرفة، ولا تهمها الحقائق والمعارف إلا من حيث هي موظفة لخدمة موقع أو سلطة شخص أو هيئة. وهي لا تستهدف تقديم معارف بريئة وخالصة للمنضوين بقدر ما يهمها تعبئتهم وحشو أذهانهم ونفوسهم بالحقائق والمعلومات ليتحركوا في المجال ولينجزوا الأهداف ويكتسحوا المواقع.
ارتباط الايديولوجيا بالأهداف العملية، وتسخيرها للمعطيات النظرية وتبنيها للغة العقل ولمصطلحاتها، يجعلها تضطلع بالوظائف التالية:
1 ـ الاستقطاب
إن التقاط أكبر قدر من الفاعلين السياسيين المتواجدين في المجال السياسي بإقناعهم بأن هذه الإيديولوجيا هي التعبير الحقيقي عن وضعيتهم الاجتماعية وعن أفكارهم وانتمائهم وهي الأقرب إلى مصلحتهم. كما تقوم بتزويدهم باقتناعات تحدّد لهم هويتهم الاجتماعية والطبقية والسياسية وتحدد لهم الأهداف التي يتعين أن يحيوا أو يموتوا من أجلها.
2 ـ التمييز
التمييز بين الأنصار والخصوم، بين الأصدقاء والأعداء. إذا كان الاستقطاب هو لف الناس حول رموز معينة صوتية (أناشيد) أو رموزية (أعلام، أفكار، نياشين، تماثيل، كتب) أو شخصية (أسماء، شهداء..) فإن حشد الأنصار يقتضي التمييز بينهم وبين الأغيار سواء كانوا مجرد أشخاص مختلفين عنا أو معنا أو كانوا منافسين أو محايدين أو خصوماً.
والآلية الغالبة في عملية الاستقطاب والتمييز هي آلية تمجيد الذات والاختيارات الخاصة، وإضفاء صبغة مثالية على الأنا والنحن، وفي نفس الوقت الحط من قيمة الآخر وإضفاء صبغة شيطانية عليه. وهذا الآلية الثنائية أو المانوية، التي تنسب الخير كله والفضل كله للذات والشر كله والسوء كله للغير، آلية دارجة في كل الايديولوجيات إن لم تكن هي العمود الفقري للتفكير الإيديولوجي. وسواء تعلق الأمر بإيديولوجيات ذات صبغة دينية أو إيديولوجيات علمانية، وسواء تعلق الأمر بإيديولوجيات ثقافية أو بإيديولوجيات سياسية، وسواء تعلق الأمر بإيديولوجيات كبرى أو بإيديولوجيات مشتقة، فإن هناك دوماً في كل من هذه الإيديولوجيات ميلاً إلى إضفاء صبغة مثالية على الذات (Idealisation) وإلى إضفاء صبغة شيطانية على الآخر(9) (Diabolisation de l'aure).
3 ـ التعبئة وتعيين الأهداف
تسعى كل الإيديولوجيات إلى الاقناع وتكييف خطابها تبعاً لدرجة الانتماء والانضواء فالخطاب الداخلي الموجه للأنصار والأتباع غير الخطاب الموجه للمتعاطفين، وهو غيرالخطاب الموجه للخصوم أو بعبارة أخرى فهو خطاب ملتبس، متعدد المعاني والدلالات والايحاءات والاحالات.
وهو خطاب يجمع بين المفهوم والمدلول، بين الاستدلال العقلي والشحن الوجداني، بين العلم والأسطورة، بهدف شحن الأذهان وتعبئة النفوس استعداداً للعمل أي للانخراط في النضال العملي من أجل تطبيق الأهداف. وبما أن الايديولوجيا هي في الغالب فكر في خدمة سلطة صاعدة أو قائمة أو آيلة للزوال، فإن من المنتظر من المنضوي تحت لوائها ألا يكتفي بالاقتناع النظري بل أن ينخرط في الممارسة العملية انتصاراً للايديولوجيا وتطبيقاً لها. فهي تحدد له الأهداف الأساسية التي يتعين عليه التضحية من أجل نصرتها، والتي تشكل الجانب اليوتوبي في كل إيديولوجيا، وذلك من حيث أن الأيديولوجيا ليست فقط ذات بعد محافظ بل هي أيضاً ذات بعد تغييري وتجديدي.
4 ـ الاختزال والتبسيط
تقتضي التعبئة والشحن، وغلبة المعايير العملية على المعايير النظرية في الايديولوجيا، القيام بتقديم وصفات فكرية جاهزة للفاعلين. ليست غاية الايديولوجيا هي طرح الاشكالات.. وتقديم الأسئلة بل على العكس من ذلك فإن هدفها هو تقديم أجوبة جاهزة وعرض حلول ناجزة. وهذا ما يجعل الايديولوجيا نقيض الفلسفة، على الرغم من الطابع الإيديولوجي للفلسفة ذاتها. فالفلسفة مساءلة (Questionnement) كما يقول هيدجر وتجذر في طرح الأسئلة طبق منهج تراجعي راديكالي. ومهمة الفلسفة هي صياغة الأسئلة أكثر مما هي تقديم أجوبة، فالأسئلة في الفلسفة منبعثة وحاضرة دوماً. أما الايديولوجيا فهي على النقيض من ذلك تعيش حالة استنفار دائم للأجوبة والحلول والاقتراحات لأن ترك الفاعل السياسي في حالة حيرة وشك وتساؤل ستعجل بسقوطه إما في شباك المعسكر المضاد أو في الشلل العلمي.
استعجال الأجوبة والحلول وتحويل التفكير إلى عملية اختيار بين خانات يدفع إلى ضرورة إلغاء كل مظاهر التعقيد في إدراك المجال وإلى إضفاء صورة بسيطة عليه، وذلك بالتمييز بين الأصدقاء والأعداء، بين ما يتعين فعله وما يتعين تركه، بين الوقائع الإيجابية والوقائع السلبية. الايديولوجيا تصبح بمثابة دليل عمل موجه للفرد لمساعدته في إدراكه وتصوره وتوجهه.
التبسيط يقتضي الاختزال وإلغاء الفروق الدقيقة بين الأشخاص والأفكار والمهام. بل إن هذه الضرورة تدفع الايديولوجيا على النقيض من ذلك إلى المماهاة المتسلسلة (Indentification enchaine)(10) أي الميل إلى تقليص الفروق المميزة بين أفكار الخصم أو بين الخصوم، وكذا إلى تقليص الفروق بين الأفكار المناصرة أو بين الأنصار. وهذا ما يجعل التفكير الإيديولوجي تفكيراً ثنائياً في العمق فهو يلغي طيف الألوان ليحتفظ فقط بالتمييز الأساسي بين الأبيض والأسود.
5 ـ الانتقاء
بما أن الحكم الايديولوجي في عمقه لا حكم واقع أو هو حكم واقع متلون بحكم قيمة فإنه يتضمن حكماً متحيزاً مع أو ضد. متحيز مع ما يبرز الفضائل والمزايا وضد ما يبرز النقائص والهنات. تركز الايديولوجيا على الوقائع الايجابية التي هي في صالحها وتتعامى عن الوقائع السلبية التي تكذبها. فهي تقوم بعملية إخفاء وإظهار، إخفاء لما يكذبها ويسفهها وينتقص منها وإظهار لما يؤيدها ويبرز مزاياها. والانتقاء هو فرز الوقائع إلى إيجابية وسلبية بإخفاء الثانية وإظهار الأولى. ويمكن أن يعم الانتقاء كآلية إيديولوجية ليشمل إدراك الوقائع وغربلة الأحداث والتمييز بين الأشخاص.
والإخفاء والانتقاء يسريان على الأخر كما يسريان على الذات. فالايديولوجيا تخفي نواياها البعيدة كما تخفي على الذات الإيديولوجية كل ما يمكن أن يسبب لها قلقاً أو حيرة أو شكاً. وهي غالباً ما تعمد إلى تجميل ما تختاره وإلى تقبيح الاختيارات المضادة.
وعلى وجه العموم فإن الايديولوجيا السياسية تقدم للفرد المنخرط في صراعات المجال السياسي أجوبة حاسمة تساعده على الاختيار السريع والانخراط في إحدى المعسكرات. تدور هذه الأجوبة حول الأسئلة التالية: من أنت؟ ماذا يتعين أن تفعل؟ من هم حلفاؤك وأصدقاؤك، ومن هم أعداؤك وخصومك؟ ما هي الأفكار التي يتعين تبنيها والدفاع عنها؟ فهي بالتالي تقدم الوصفة الجاهزة التي تساعد على التصنيف والاختيار وإخراج الفرد من حيرته وتردده لحفزه على العمل.